مقطع من قصة

إنطلق علي مع أمه لجلب كوز آيس كريم آخر، كان سعد ينظر إليه، يحبُّ أن يتأمل مشيته الغير متوازنةوكأنه بطة.
خلف إحدى أكشاك بيع الألعاب كانت الفتاة المراهقة تتبادل رقم هاتفها مع الشاب الذي ارتطمت بهِ على متن الأرجوحة.
كانا آخر ما رآه سعد قبل أن يحدث الإنفجار، ثوانٍ بيضاء تشبه أن يلتقط الموت صورة للمشهد وما هي إلا لحظات يشعر فيها الإنسان بأن العالم غرفة واحدة تأتيها الصيحات من كل نافذة وفم.

زحفَ سعد ثمّ حبى حتى يبحث عنهما. عثر على زوجته أولاً، كانت غارقة في بقعة دم واحشائها مختلطة بأحشاء وأجزاء الجثث الأخرى. أما علي فكان من السهل تمييز شعره الأشقر وقميصه الخمريّ، وجده مرمياً على حافة الرصيف، لم يتعرف سوى على شعره الأشقر وعينيه الزرقاوين المفتوحتين بذعر لم يسبق أن رآهُ فيهما. عندما وقف سعد لرفع إبنه تفاجأ بأنه يبدو من المنظور الأعلى أشبه بالأخطبوط. لقد تمزّق جسد علي الحبيب إلى شرائط.


يشعرُ سعد بأن فقدان الزوجة الحبيبة يجمع بينه وبين جاره الذي يتقدمه بخطواتٍ كثيرة إلى الغرفة.
لم يكن سعد قد زار هذه الغرفة منذ استأجرها، ولم يستغرب إنطلاق هيكل عظميّ لطائر فور أن فتحا الباب. باشر جاره بلملمة خيوط العناكب من الزوايا دون أن ينتظر امراً من سعد.

كانت الغرفة مؤثثة بطاولة للكتابة وكرسيّ فقط. رفع سعد تمثالاً صغيراً عن الطاولة لفتاة تحمل نجمة، قلّبه بين يديه، كان مكتوباً في اسفله: (ملاك النور). إنها واحدة من تلك التماثيل الحجرية التي تُباع في الأسواق الفنلندية باسامٍ ملائكية: ملاك النور، ملاك الحب، ملاك الصداقة.
نظر إلى جاره الذي وظّف حركات يديه النشيطين بالتنظيف وكأنه في مكان آخر منعزل، دون أن ينتبه لسعد والقذارات والجدران وصوت الأمواج القادم من النافذة. أثارت طريقة حديث جاره فضوله، طريقة منمقة وكأنه يلقي دوراً في مسرحية، لا بل في فيلم سينمائيّ مُحكم.

-برأيك أين سيحط ذلك الطائر؟ سأله سعد.
-عند السيد جمناستك طبعاً.
-الرجل النتن أبو لحية صفراء؟
توقّف عن العمل وأدار وجهه:
-أجل. طبعاً. على فكرة أنا من صبغت لحيته. إذا تحتاج أي خدمة في الصبغ أنا بالخدمة وببلاش.

تبدو الحياة صفراء من النافذة، صفرة تصبغ كل شيء. عندما ينقّل سعد عينيه بين الصخور تنتابه مرارة السينما وحركات الكاميرا التي لا يفكر بالعودة إليها قدر حلمه بأن يخلق لحظة يشتهيها. يفكّر بابنه علي مجدداً، هذه الهواجس تستغرق الكثير من وقته بل وتبدو أقرب لخلفية حياته كلها.
يخطر له القرار.
يبدو البحر هادئاً، هناك شكل نصف دائريّ هو وحده الذي تشغله الأمواج، المنظر عظيم، يمكنه كذلك أن يكون مادة خام لفكرة فيلم.
-إبني موجود هنا. أريدك أن ترسمه كما يجب أن يبدو الآن.
كان الجار قد دلق سطل الماء الدافئ وانهى شطف نصف الأرضية.
-الله يرحمه. لننته من الغرفة الآن ونرسمه لاحقاً.
وواصل التنظيف.
ما عادت ردود جاره تفاجئه أو تجعله يشعر بالتفوّق الإنساني على رجل يتحدث مثل فيلم. صار يحترم كلماته.
-الله أنعم عليّ بحاسة شمّ فريدة. بالشم اهتديتُ لإبنك وبه سأجد سبيلاً لزوجتي.



اللوحة: علي آل تاجر





تعليقات

المشاركات الشائعة